فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {فإنا مبرمون} أي فإنا محكمو نصره وحمايته. والإبرام: أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلًا متقنًا. والبريم: خيط فيه لونان.
وقوله تعالى: {أم يحسبون} الآية، قال محمد بن كعب القرظي: نزلت لأن كثيرًا من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السر، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة: أترى الله يسمعنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع، أي يدرك السر والنجوى، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك، وتعد للجزاء يوم القيامة.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} فقالت فرقة: العابدون: هو من العبادة، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك، فقال قتادة والسدي والطبري، المعنى:
{قل} لهم {إن كان للرحمن ولد} كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل. قال الطبري: فهذا الطاف في الخطاب، ونحوه قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى في مخاطبة الكفار: {أين شركائي} [النحل: 27، القصص: 62- 72، فصلت: 47].
وقال مجاهد المعنى: إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم. وقال قتادة أيضًا وزهير بن محمد وابن زيد: {إن} نافية بمعنى: ما، فكأنه قال: ما كان للرحمن ولد. وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ قوله: {فأنا أول العابدين} قاله أبو حاتم. وقالت فرقة: العابدون في الآية: من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء، ومنه قول الشاعر:
متى يشأ ذو الود يصرم خليله ** ويعبد عليه لا محالة ظالما

ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} [الأحقاف: 15] قال: فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد. والمعنى: إن جعلتم للرحمن ولدًا وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك.
وقرأ الجمهور: {وَلَد} بفتح الواو واللام. وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش: {وُلْد} بضم الواو وسكون اللام.
وقرأ أبو عبد الرحمن: {فأنا أول العابدين} وهي على هذا المعنى، قال أبو حاتم: العبد بكسر الباء: الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة معناه: أول الجاحدين، والعرب تقول: عبدني حقي، أي جحدني.
{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)}.
لما قال تعالى: {فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] نزه الرب تعالى عن هذه المقالة التي قالوها و: {سبحان} تنزيه. وخص {السماوات والأرض} و{العرش} لأنها عظم المخلوقات.
وقوله تعالى: {فذرهم يخوضوا} مهادنة ما وترك، وهي مما نسخت بآية السيف وقرأ الجمهور {يلاقوا} وقرأ أبو جعفر وابن محيصن: {حتى يلقوا}. وقال جمهور اليوم الذي توعدهم به هو القيامة. وقال عكرمة وغيره: هو يوم بدر.
وقوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله} الآية آية حكم بعظمته وإخبار بألوهيته، أي هو النافذ أمره.
وقرأ عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وأبو شيخ والحكم بن أبي العاصي وبلال بن أبي بردة وابن مسعود ويحيى بن يعمر وأبي بن كعب وابن السميفع: {وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله}، و: {الحكيم} المحكم.
{وتبارك} تفاعل من البركة، أي تزيدت بركاته. و: {السماوات والأرض وما بينهما} حصر لجميع الموجودات المحسوسات. و: {علم الساعة} معناه: علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه، وإلا فنحن عندنا علم الساعة، أي إنها واقعة، وإنها ذات أهوال وبصفات ما، والمصدر في قوله: {علم الساعة} مضاف إلى المفعول.
وقرأ أكثر القراء: {وإليه يرجعون} بالياء من تحت. وقرأ نافع وأبو عمرو: {تُرجعون} بالتاء من فوق مضمومة.
{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}.
قوله تعالى: {ولا يملك} الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام. و: {الذين} هم المعبودون، والضمير في: {يدعون} هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل، فأعلم تعالى أن من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: {يدعون} بالياء من تحت. وقرأ ابن وثاب: {تدعون}، بالتاء من فوق، ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار، واختلف الناس في المستثنى، فقال قتادة: استثنى ممن عبد من دون الله: عيسى وعزيرًا والملائكة، والمعنى فإنهم يملكون شفاعة، بأن يملكها الله إياهم، إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم، فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره: استثنى من في المشفوع فيهم، فكأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه، أي هو بالتوحيد، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل، كأنه قال: لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء، والتأويل الأول أصوب، والله أعلم. ثم أظهر تعالى عليهم الحجة من أقوالهم وإقرارهم بأن الله هو خالقهم وموجدهم بعد العدم، ثم وقفهم على جهة التقرير والتوبيخ بقوله: {فأنى يؤفكون} أي فلأي جهة يصرفون.
وقرأ جمهور القراء بالنصب، وهو مصدر كالقول، والضمير فيه لمحمد عليه السلام، وحكى مكي قولا أنه لعيسى وهو ضعيف، واختلف الناس في الناصب، فقالت فرقة هو معطوف على قوله: {سرهم ونجواهم} [الزخرف: 80]. وقالت فرقة العامل فيه {يكتبون} [الزخرف: 80] أي أقوالهم من أفعالهم.
{وقيله}. وقالت فرقة: الناصب له ما في قوله: {وعنده علم الساعة} [الزخرف: 85] من قوة الفعل، أي ويعلم قيله، ونزل قوله تعالى: {وقيله يا رب} بمنزلة وشكوى محمد واسغاثته من كفرهم وعتوهم. وقرأ عاصم وحمزة وابن وثاب والأعمش: و{قيلهِ} بالخفض عطفًا على {الساعة} [الزخرف: 85]. وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد: {وقيلُه} بالرفع على الابتداء. وخبره في قوله: {يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} أي قيله هذا القول، أو يكون التقدير: وقيله يا رب مسموع ومتقبل، فـ: {يا رب} على هذا منصوب الموضع بـ: {قيله} وقرأ أبو قلابة: {يا ربَّ} بفتح الباء المشددة، وأراد يا رب على لغة من يقول: يا غلامًا، ثم حذف الألف تخفيفًا واتباعًا لخط المصحف.
وقوله: {فاصفح عنهم} موادعة منسوخة بآيات السيف.
وقوله: {سلام} تقديره: وقل أمري سلام، أي مسالمة.
(وقالت فرقة) المعنى: وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة، والنسخ قد أتى على هذا السلام، فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة.
وقرأ جمهور القراء: {يعلمون} بالياء. وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر: {تعلمون} بالتاء من فوق. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)}.
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة، وما يقال لهم من لذائذ البشارة، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة، وما يجاوبون به عند سؤالهم.
وقرأ عبد الله: وهم فيها، أي في جهنم؛ والجمهور: وهم فيه أي في العذاب.
وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يردم عليه، فيبقى فيه خالدًا لا يرى ولا يرى.
{لا يفتر عنهم}: أي لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى، إذا سكنت قليلًا ونقص حرها.
والمبلس: الساكت اليائس من الخير.
{وما ظلمناهم}: أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه.
{ولكن كانوا هم الظالمين}: أي الواضعين الكفر موضع الإيمان، فظلموا بذلك أنفسهم.
وقرأ الجمهور: {والظالمين}، على أن هم فصل.
وقرأ عبد الله، وأبو زيد النحويان: {الظالمون} بالرفع، على أنهم خبرهم، وهم مبتدأ.
وذكر أبو عمرو الجرمي: أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، ويرفعون ما بعده على الخبر.
وقال أبو زيد: سمعتهم يقرأون: {تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرًا} يعني: يرفع خير وأعظم.
وقال قيس بن دريج:
نحن إلى ليلى وأنت تركنها ** وكنت عليها بالملا أنت أقدر

قال سيبويه: إن رؤبة كان يقول: أظن زيدًا هو خير منك، يعني بالرفع.
{ونادوا يا مالك}: تقدم أنهم مبلسون، أي ساكتون، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم.
وقرأ الجمهور: {يا مالك}.
وقرأ عبد الله، وعليّ، وابن وثاب، والأعمش: {يا مال}، بالترخيم، على لغة من ينتظر الحرف.
وقرأ أبو السرار الغنوي: {يا مال}، بالبناء على الضم، جعل اسمًا على حياله.
واللام في: {ليقض} لام الطلب والرغبة.
والمعنى: يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا، كقوله: {فوكزه موسى فقضى عليه} أي أماته.
{قال}: أي مالك، {إنكم ماكثون}: أي مقيمون في النار لا تبرحون.
وقال ابن عباس: يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل: ثمانين، وقال عبد الله بن عمرو: أربعين.
{لقد جئناكم بالحق}: يظهر أنه من كلام الله تعالى.
وقيل: من كلام بعض الملائكة، كما يقول أحد خدم الرئيس: أعلمناكم وفعلنا بكم.
قيل: ويحتمل أن يكون {قد جئناكم} من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم.
{أم أبرموا}: والضمير لقريش، أي بل أحكموا أمرًا من كيدهم للرسول ومكرهم، {فإنا مبرمون} كيدنا، كما أبرموا كيدهم، كقوله: {أم يريدون كيدًا فالذين كفروا هم المكيدون} وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول، فقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم}، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال.
{ونجواهم}: وهي ما تكلموا به فيما بينهم.
{بلى}: أي نسمعها، {رسلنا}، وهم الحفظة.
{قل إن كان للرحمن ولد}، كما تقولون، {فأنا أول} من يعبده على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك.
وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال: إن كان للرحمن ولد، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه، وحجة واضحة يبذلونها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالًا مثلها.
فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها.
ثم قال الزمخشري: ونظيره أن يقول العدلي للمجبر.
ثم ذكر كلامًا يستحق عليه التأديب، بل السيف، نزهت كتابي عن ذكره.
ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد، في زعمكم، فأنا أول العابدين، الموحدين لله، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه.
وقيل: إن كان للرحمن ولد، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد، إذ اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقرأ بعضهم: {عبدين}، وقيل: هي إن النافية، أي ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: أن الملائكة بنات الله، فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى.
أما القول: إن كان لله ولد في زعمكم، فهو قول مجاهد، وأما القول: فأنا أول الآنفين، فهو قول جماعة، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحدًا منهم، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني: العبدين، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين: العبدين، بإسكان الباء، تخفيف العبدين بكسرها.
وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين: أنه الآنفين انتهى.
وقال ابن عرفة: يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقلما يقال: عابد.
والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ثم قال: كقول مجاهد.
وقال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** واعبد أن أهجوا كليبًا بدارمي

أي: آنف وأستنكف.
وقال آخر:
متى ما يشا ذو الود يصرم خليله ** ويعبد عليه لا محالة ظالما

وأما القول بأن إن نافية، فمروي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وقتادة، وابن زيد، وزهير بن محمد، وقال مكي: لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال.
انتهى.
ولا يلزم منه محال، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول، كقولك: {وكان الله غفورًا رحيمًا} أي لم يزل، فالمعنى: ما كان وما يكون.
وقال أبو حاتم: العبد، بكسر الباء: الشديد الغضب.
وقال أبو عبيدة: معناه أول الجاحدين.
والعرب تقول: عبدني حقي، أي جحدني.
وقرأ {ولد} بفتحتين.
عبد الله، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بضم الواو وسكون اللام.